فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله}.
يعني فلا تحسبن الله يا محمد مخلف ما وعد به رسله من النصر وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين فإنه ناصر رسله وأوليائه ومهلك أعدائه، وفيه تقديم وتأخير تقديره ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده {إن الله عزيز} أي غالب {ذو انتقام} يعني من أعدائه قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين أحدهما أنه تبدل صفة الأرض والسماء لا ذاتهما فأما تبديل الأرض فبتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها وهو أن تدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب، وتمد مد الأديم وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها، وقمرها ويكوران كونها تارة كالدهان، وتارة كالمهل وبهذا القول قال جماعة من العلماء: ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقى ليس بها علم لأحد» أخرجاه في الصحيحين العفراء بالعين المهملة، وهي البيضاء إلى الحمرة ولهذا شبهها بقرصة النقى، وهو الخبر الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة وقوله: ليس به علم لأحد يعني ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها، وزوال جبالها وجميع بنائها فلا يبقى فيها أثر يستدل به والقول الثاني: هو تبديل ذوات الأرض والسماء وهذا قول جماعة من العلماء، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال: تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك بها دم، ولم يعمل عليها خطيئة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وقال أبيّ بن كعب في معنى التبديل: بأن تصير الأرض نيرانًا والسماء جنانًا وقال أبو هريرة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلًا لأهل الجنة» أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه.
قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح هذا الحديث: أما النزل فبضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء.
وقال أهل اللغة: هي الظلمة التي توضع في الملة يتكفؤها بالهمزة بيده أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتسوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة وقد حققنا الكلام في اليد في حق الله سبحانه وتعالى وتأويلها مع القطع باستحالة الجارحة عليه ليس كمثله شيء، ومعنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى، يجعل الأرض كالظلمة أي الرغيف العظيم وتكون طعامًا نزلًا لأهل الجنة والله على كل شيء قدير.
فإن قلت: إذا فسرت التبديل بما ذكرت فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى: {يومئذ تحدث أخبارها} وهو أن تحدث أخبارها وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها، قلت: وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولًا صفتها مع بقاء ذاتها كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها ثم بعد ذلك تبدل تبديلًا ثانيًا، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها كما تقدم أيضًا ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه سلم عن قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال: «على الصراط». أخرجه مسلم وروى ثوبان بأن حبرًا من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض قال: «هم في الظلمة دون الجسر». ذكره البغوي بغير سند، ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقوله تعالى: {وبرزوا} يعني وخرجوا من قبورهم {لله} يعني لحكم الله، والوقوف بين يديه للحساب {الواحد القهار} صفتان لله تعالى فالواحد الذي لا ثاني له ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند والقهار الذي يقهر عباده على ما يريد، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قوله تعالى: {وترى المجرمين يومئذ مقرنين}.
يعني مشدودين بعضهم إلى بعض يقال: قرنت الشيء بالشيء إذا شددته معه في رباط واحد {في الأصفاد} يعني في القيود والأغلال.
قال ابن عباس: يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة.
قال أبو زيد: تقرن أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد وهي القيود.
وقال ابن قتيبة: يقرن بعضهم إلى بعض {سرابيلهم} يعني قمصهم واحدها سربال وقيل السربال كل ما لبس {من قطران} القطران دهن يتحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت، وهو الهناء يقال هنأت البعير أهنؤه بالهناء وهو القطران قال الزجاج: وإنما جعل لهم القطران سرابيل لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ولكنه حذرهم مما يعرفون وقرأ عكرمة، ويعقوب من قطران على كلمتين منونتين فالقطر النحاس المذاب والآن الذي انتهى حره {وتغشى وجوههم النار} يعني تعلوها وتجللها {ليجزي الله كل نفس بما كسبت} يعني من خير أو شر {إن الله سريع الحساب} يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة {هذا بلاغ للناس} يعني هذا القرآن فيه تبليغ وموعظة للناس {ولينذروا} يعني وليخوفوا بالقرآن ومواعظه وزواجره {وليعلموا أنما هو إله واحد} يعني وليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى: {وليذكر أولو الألباب} يعني وليتعظ بهذا القرآن وما فيه من المواعظ، أولو العقول والأفهام الصحيحة، فإنه موعظة لمن اتعظ والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}.
لم يرَدْ به والله سبحانه أعلم ما وعده بقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} الآية، وقولِه: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} كما قيل فإنه لا اختصاصَ له بالتعذيب لاسيما الأخرويُّ، بل ما سلف آنفًا من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ} الآية، كما يُفصح عنه الفاءُ الداخلة على النهي الذي أريد به تثبيتُه عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقّن بإنجاز وعدِه المذكور المقرونِ بالأمر بإنذارهم يوم إتيانِ العذاب المتضمِّنِ لذكر تعذيبِ الأممِ السالفة، بسبب كفرِهم وعصيانِهم رسلَهم بعد ما وعدهم بذلك كما فُصّلت قصةُ كل منهم في القرآن العظيم، فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة، وأخبرناك بما يلقَوْنه من الشدائد، وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا، وبما أجَبْناهم به وقرَعناهم بعدم تأملِهم في أحوال من سبَقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلَهم بإهلاكهم، فدُمْ على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافِنا رسلَنا وعدَنا {أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ لا يماكَر وقادرٌ لا يقادَر {ذُو انتقام} لأوليائه من أعدائه، والجملةُ تعليلٌ للنهي المذكور وتذييلٌ له، وحيث كان الوعدُ عبارةً عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيَّل بأن يقال: إن الله لا يخلف الميعاد، بل تعرض لوصف العزة والانتقامِ المُشعِرَين بذلك، والمرادُ بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبّر عنه بالمكر.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض}.
ظرفٌ لمضمر مستأنفٌ ينسحب عليه النهيُ المذكور أي ينجزه يوم إلخ، أو معطوفٌ عليه نحوُ وارتقب يومَ تبدّل الأرض غيرَ الأرض، أو الانتقام وهو يوم يأتيهم العذابُ بعينه ولكن له أحوالٌ جمّة يُذكر كلَّ مرة بعنوان مخصوص، والتقييدُ به مع عموم انتقامِه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصودُ من تعذيب الكفرة المؤخرِ إلى ذلك اليوم بموجب الحكمةِ الداعيةِ إليه، وقيل: بدلٌ من {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} أو نُصب باذكرْ أو إضمارِ لا يخلف وعده يوم تبدل إلخ، وفيه أيضًا ما في الوجه الثالث من الحاجة إلى الاعتذار، ولا يجوز أن ينتصب بقوله: {مخلَف وعدِه} لأن ما قبل إنّ لا يعمل فيما بعده، وقيل: هو غيرُ مانع لأن قوله تعالى: {إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} جملةٌ اعتراضية فلا يبالى بها فاصلًا.
واعلم أن التبديلَ قد يكون في الذات كما في: بدلتُ الدراهمَ دنانيرَ وعليه قوله عز وجل: {بدلناهم جُلُودًا غَيْرَهَا} وقد يكون في الصفات كما في قولك: بدلتُ الحلْقةَ خاتمًا إذا غيّرتَ شكلها ومنه قوله تعالى: {يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} على بعض الأقوال، والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين. فعن علي رضي الله عنه: «تبدل أرضًا من فضة وسمواتٍ من ذهب» وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاءَ نقيةٍ لم يُسفك فيها دمٌ ولم يعمَلْ عليها خطيئة» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «هي تلك الأرضُ وإنما تُغيّر صفاتُها» وأنشد:
وما الناسُ بالناس الذين عهِدتهم ** وما الدارُ بالدار التي كنت تعلمُ

وتبدّلُ السموات بانتثار كواكبها وكسوفِ شمسِها وخسوفِ قمرِها وانشقاقها وكونها أبوابًا، ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «تبدل الأرضُ غيرَ الأرض فتبسطُ وتمد مدَّ الأديمِ العُكَاظِيِّ لا ترى فيها عِوجًا ولا أمْتًا» {والسماوات} أي وتبدل السمواتُ غيرَ السموات حسبما مر من التفصيل، وتقديمُ تبديلِ الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظمَ أثرًا بالنسبة إلينا.
{وَبَرَزُواْ} أي الخلائق أو الظالمون المدلولُ عليهم بمعونة السباق، والمرادُ بروزُهم من أجداثهم التي في بطون الأرضِ أو ظهورُهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرًّا ويزعُمون أنها لا تظهر، أو يعملون عمل من يزعمُ ذلك، ولعل إسنادَ البروز إليهم مع أنه لأعمالهم للإيذان بتشكّلهم بأشكال تناسبها، وهو معطوفٌ على تبدل، والعدولُ إلى صيغة الماضي للدِلالة على تحقق وقوعِه، أو حالٌ من الأرض بتقدير قد والرابطُ بينها وبين صاحبِها الواو {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} للحساب والجزاء، والتعرُّضُ للوصفين لتهويل الخطبِ وتربيةِ المهابة وإظهار بطلانِ الشركِ، وتحقيقُ الانتقامِ في ذلك اليوم على تقدير كونِه ظرفًا له، وتحقيقُ إتيان العذاب الموعودِ على تقدير كونِه بدلًا من يوم يأتيهم العذاب فإن الأمرَ إذا كان لواحد غلاّبٍ لا يعار وقادر لا يُضارّ ولا يغار كان في غاية ما يكون من الشدة والصعوبة.
{وَتَرَى المجرمين} عطف على برزوا، والعدولُ إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على الاستمرار، وأما البروزُ فهو دفعيٌّ لا استمرار فيه وعلى تقدير حاليةِ برزوا فهو معطوفٌ على تبدل ويجوز عطفُه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونِه ينجزه {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذ برزوا له عز وجل أو يوم إذ تبدل الأرضُ أو يوم يُنجِز وعدَه {مُقْرِنِينَ} قُرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في الجرائم والجرائر، أو قُرنوا مع الشياطين الذين أغوَوْهم أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملَكات الردِيّة والأعمال السيئة غِبَّ تصور كلَ منها وتشكلهما بما يناسبهما من الصور الموحشة والأشكال الهائلة، أو قرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين {فِى الأصفاد} في القيود أو الأغلال، وهو إما متعلقٌ بقوله تعالى: {مُقْرِنِينَ} أو حال من ضميره أي مصفّدين.
{سَرَابِيلُهُم} أي قُمصانهم {مّن قَطِرَانٍ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر محلُّها النصبُ على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مقرنين رابطتها الضمير فقط كما في كلمتُه فوه إلى فيَّ، أو مستأنفة، والقطران ما ينحلب من الأيهل فيطبخ فتُهنَأُ به الإبلُ الجربى فيحرق الجرَبَ بما فيه من الحِدّة الشديدة، وقد تصل حرارتُه إلى الجوف وهو أسودُ منتِنٌ يسرع فيه اشتعالُ النار يطلى به جلودُ أهل النار حتى يعودَ طلاؤُه لهم كالسراويل ليجتمع عليهم الألوانُ الأربعة من العذاب لذعُه وحرقتُه وإسراعُ النار في جلودهم واللونُ الموحش والنتَنُ على أن التفاوت بينه وبين ما نشاهده وبين النارين لا يكاد يقادَر قدرُه فكأن ما نشاهده منهما أسماءُ مسمَّياتِها في الآخرة، فبِكَرمه العميمِ نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ ويحتمل أن يكون ذلك تمثيلًا لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديةِ والهَنات الوحشية فتجلُب إليها الآلام والغموم بل وأن يكون القطِرانُ المذكور عينَ ما لابسوه في هذه النشأة وجعلوا شعارًا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسّدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعةِ لاشتداد العذاب عصَمنا الله سبحانه عن ذلك بمنه ولُطفه، وقرئ {قطرآنٍ} أي نحاس مُذابٍ مُتناهٍ حرُّه.
{وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} أي تعلوها وتحيط بها النارُ التي تمس جسدَهم المسَرْبلَ بالقطِران، وتخصيصُ الوجوه بالحكم المذكورِ مع عمومه لسائر أعضائِهم لكونها أعزَّ الأعضاء الظاهرةِ وأشرفَها كقوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب} إلخ، ولكونها مجمعَ المشاعرِ والحواسّ التي خُلقت لإدراك الحق وقد أعرضوا عنه ولم يستعملوها في تدبره، كما أن الفؤادَ أشرفُ الأعضاء الباطنةِ ومحلُّ المعرفة وقد ملؤوها بالجهالات، ولذلك قيل: {تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة} أو لخلوّها عن القطِران المغني عن ذكر غشيانِ النار لها، ولعل تخليتَها عنه ليتعارفوا عند انكشافِ اللهب أحيانًا ويتضاعف عذابُهم بالخزي على رؤوس الأشهاد، وقرئ {تَغَشَّى} أي تتغشى بحذف إحدى التاءين، والجملةُ نصبٌ على الحالية لا على أن الواو حاليةٌ لأنه مضارعٌ مثبَتٌ بل على أنها معطوفةٌ على الحال قاله أبو البقاء.
{لّيَجْزِىَ الله} متعلقٌ بمضمر أي يفعل بهم ذلك {ليجزِيَ كُلُّ نَفْسٍ} مجرمةٍ {مَّا كَسَبَتْ} من أنواع الكفرِ والمعاصي جزاءً موافقًا لعملها، وفيه إيذانٌ بأن جزاءَهم مناسبٌ لأعمالهم، أو بقوله: {برزوا} على تقدير كونِه معطوفًا على تُبدّل، والضمير للخلق، وقوله: {وترى المجرمين} إلخ، اعتراضٌ بين المتعلِّق والمتعلَّق به أي برزوا للحساب ليجزيَ الله كلَّ نفس مطيعةٍ أو عاصية ما كسبت من خير أو شر، وقد اكتُفي بذكر عقاب العُصاة تعويلًا على شهادة الحال لاسيما مع ملاحظة سبق الرحمةِ الواسعة {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} إذ لا يشغَله شأنٌ عن شأن فيُتمُّه في أعجل ما يكون من الزمان فيوفّي الجزاءَ بحسبه، أو سريعُ المجيء يأتي عن قريب، أو سريعُ الانتقام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب}.
{هذا} أي ما ذكر من قوله سبحانه: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا} إلى قوله: {سَرِيعُ الحساب} {بَلاَغٌ} كفايةٌ في العظة والتذكيرِ من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورةُ الكريمة أو كلُّ القرآن المجيدِ من فنون العظات والقوارعِ {لِلنَّاسِ} للكفار خاصةً على تقدير اختصاصِ الإنذار بهم في قوله تعالى: {وَأَنذِرِ الناس} أو لهم وللمؤمنين كافةً على تقدير شمولِه لهم أيضًا وإن كان ما شرح مختصًا بالظالمين {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} عطفٌ على مقدر واللامُ متعلقةٌ بالبلاغ أي كفاية لهم في أن يُنصَحوا أو ينذَروا به، أو هذا بلاغٌ لهم ليفهموه ولينذَروا به، على أن البلاغَ بمعنى الإبلاغ كما في قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} أو متعلقة بمحذوف أي ولينذَروا به أُنزل أو تُليَ، وقرئ {لينذروا به} من نذر بالشيء إذا علِمه وحذِره واستعدّ له.
{وَلِيَعْلَمُواْ} بالتأمل فيما فيه من الدلائل الواضحةِ هي إهلاكُ الأمم وإسكانُ آخرين في مساكنهم، وغيرُهما مما سبق ولحِق {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} لا شريكَ له، وتقديمُ الإنذار لأنه الداعي إلى التأمل المؤدِّي إلى ما هو غايةٌ له من العلم المذكور والتذكر في قوله تعالى: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي ليتذكروا ما كانوا يعملونه من قبلُ من التوحيد وغيرِه من شؤون الله عز وجل ومعاملتِه مع عباده فيرتدعوا عما يُرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفارُ ويتدرعوا بما يُحظيهم من العقائد الحقةِ والأعمال الصالحةِ، وفي تخصيص التذكرِ بأولي الألباب تلويحٌ باختصاص العلمِ بالكفار ودَلالةٌ على أن المشارَ إليه بهذا ما ذكرنا من القوارع المَسوقةِ لشأنهم لا كلُّ السورةِ المشتملةِ عليها على ما سيق للمؤمنين أيضًا، فإن فيه ما يفيدهم فائدةً جديدةً، وحيث كان ما يفيده البلاغُ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمرًا حادثًا وبالنسبة إلى أولي الألباب الثباتَ على ذلك حسبما أُشير إليه عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكر، ورُوعيَ ترتيبُ الوجودِ مع ما فيه من الختم بالحسنى والله سبحانه أعلم.. ختم الله لنا بالسعادة والحسنى ورزقنا الفوز بمرضاته في الأولى والعقبى آمين. اهـ.